إلى القمر المشرد ..... إلى الوردة الشامية ..... إلى نزار قباني في ذكرى رحيله .... كثيرة هي المقالات التي كتبت عن فارس الشعراء العرب نزار قباني بعد رحيله , ومهما كتبنا عنه فلن نوفيه حقه , فنزار كان مدرسة للشعر ومحيطاً من الصعب الغوص فيه برحيله فقد العرب أسطورة من الصعب بل من المستحيل أن يجود التاريخ بمثلها . في الثلاثين من نيسان الحالي تمر علينا الذكرى الثانية عشرة لرحيل الوردة الشامية ..... القمر المشرد ( أبو توفيق ) شاعر المرأة ..... الشاعر الذي تحول من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين . في أحد بيوت دمشق القديمة ولد نزار لأسرة دمشقية عريقة , وعن ولادته يقول : ( يوم ولدت كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادةوكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء .... هل كانت يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها وترمي فيه الأشجار كل أوراقها القديمة ؟ أم كان مكتوباً علي أن أكون كشهر آذار .... شهر التغيير و التحولات ) ؟ ملأ نزار الدنيا وشغل الناس ولم تزل أشعاره تنتشر في كل مكان من ثقافتنا العربية تنقل من جيل إلى جيل .... لقد أثار من الضجيج والحب والإعجاب ما لم يثره الآخرون وأعطى للشعر العربي من قصائد الحب و الثورة ما جعل منه أيقونة شعرية لا يمكن لأي متذوق للشعر إلا أن يتوقف عندها لم تكتمل مهمة انتشال الشعر العربي من عصور الانحطاط التي بدأها أحمد شوقي و البارودي إلا في مرحلة تالية من القرن العشرين ومن عباءة شاب دمشقي صغير قالت له سمراء ذات يوم بعضاً من أسرارها فقرر أن يبوح بها للعالم فأتى ديوان : ( قالت لي السمراء ) ليحيك بعده خيوط التحول المقصود من الشعر العمودي إلى التفعيلة ولكن دون أن يتخلى عن أصالة الشعر . و في وقتها , لم يتفق النقّاد بعد على هوية هذا المطلِّ على عالم الشعر العربي الحديث ، وكان نزار قباني خارج نطاق كل ما تعلق بهذه الإشكالية .
إلا أن صاحب ( طفولة نهد ) و ( الرسم بالكلمات ) , وبرأي الكثيرين كان الأكثر تأثيراً و شعبية بين شعراء جيله المعاصرين و مازالت كلماته العاشقة والمتوحشة والمجنونة تسافر بين النجوم وبين البشر . للوطن والمدن هامش كبير في شعر نزار قباني ، فدمشق هي المحبوبة الأولى و الأخيرة ، كتب لها أجمل اللوحات الشعرية العذبة من قصيدة ( موال دمشقي ) نقتطف الأبيات العذبة التالية :
يا شام يا شامة الدنيا ، ووردتها يا من بحسنك أوجعت الإزميلا وددت لو زرعوني فيك مئذنة أو علقوني على الأبواب قنديلا يا بلدة السبعة الأنهار يا بلدي ويا قميصا بزهر الخوخ مشغولا أيا شام إن كنت أخفي ما أكابده فأجمل الحب حب - بعد - ما قيلا كانت لفلسطين مكانة كبيرة في قلب شاعرنا العظيم , فكتب فيها الكثير، ومن أشهر قصائده في هذا المجال قصيدة : ( أطفال الحجارة ) أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى الباسلة يقول فيها : بهروا الدنيا وما في يدهم إلا الحجارة و أضاؤوا كالقناديل ، و جاؤوا كالبشارة قاوموا وانفجروا واستشهدوا وبقينا دببا قطبية صفحت أجسادها ضد الحرارة أما القصيدة الثانية فهي بعنوان ( شعراء الأرض المحتلة ) وفي جزء منها يقول : محمود درويش ..... سلاماً توفيق الزَّيَّاد ..... سلاماً يا فدوى الطوقان ..... سلاما يا من تبرون على الأضلاع الأقلام نتعلم منكم ، كيف نفجر في الكلمات الألغام . و حتى في قصيدته الرائعة و التي كتبها في رثاء زوجته بلقيس و التي حملت اسمها , لم ينس أن يتطرق إلى فلسطين : لو أنهم حملوا إلينا من فلسطين الحزينة نجمة .... أو برتقالة لو أنهم حملوا إلينا من شواطىء غزة .... حجرا صغيرا أو محارا ..... لو أنهم من ربع قرن حرروا زيتونة أو أرجعوا ليمونة و محو عن التاريخ عاره لشكرت من قتلوك ..... يا بلقيس يا معشوقتي حتى الثمالة لكنهم تركوا فلسطين ليغتالوا غزالة . أما قصيدة ( المهرولون ) والتي انتقد فيها و شجب اتفاقية أوسلو فيقول فيها : سقطت آخر جدران الحياء و فرحنا ..... ورقصنا وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء لم يعد يرعبنا شيء ..... ولا يخجلنا شيء فقد يبست فينا عروق الكبرياء.
ثم يمضي قائلا : بعد خمسين سنة تجلس الآلاف على أرض الخراب مالنا مأوى كآلاف الكلاب ما تفيد الهرولة؟ عندما يبقى ضمير الشعب حيا كفتيل القنبلة لن تساوي كل توقيعات أوسلو ..... خردلة . في الربيع ولد نزار ، و في الربيع توفي ، وعاد في الربيع من لندن إلى دمشق التي عشقها ليدفن في ثراها بعد غربة ..... ليدفن بجوار ابنه توفيق . و أثناء وجوده في المستشفى الذي توفي فيه في لندن وبعد زيارة الراحل محمود درويش له , قال درويش ردا على سؤال : ( أنا لم أختلف معه , ففي القمة هناك متسع لأكثر من واحد أما في القاع فالصراع على أشده بين الأقزام ) محمود درويش الذي رثى نزار في قصيدة رائعة عثر عليها بعد وفاته في بيت نزار قباني ..... يرثي نزار بلغته ، فيرثي الياسمين ويرثي أناقته و وحدته ليعطي للقصيدة بعضاً من أثره , و فيها يصف درويش بيت نزار من خلال لون عينيه : بيت الدمشقي بيت من الشعر ، أرض العبارة زرقاء ، شفافة . ليله أزرقٌ مثل عينيه آنية الزهر زرقاء والستائر زرقاء ، سجاد غرفته أزرق ، دمعه حين يبكي رحيل ابنه في الممرات أزرق ، آثار زوجته في الخزانة زرقاء .
أنا وردتكم الشامية يا أهل الشام فمن وجدني منكم فليضعني في أول مزهرية أنا شاعركم المجنون يا أهل الشام فمن رآني منكم فليلتقط لي صورة تذكارية أنا قمركم المشرد يا أهل الشام فمن رآني منكم فليتبرع لي بفراش وبطانية صوف لأنني لم أنم منذ قرون.
وبعد وصول الجثمان إلى دمشق، خرجت بكل ناسها في استقبال ابنها البار و جمع أهلها كل أنواع الورود والياسمين ونثروها لاستقبال الراحل الكبير , و قامت دمشق عن بكرة أبيها ، تبكي شاعرها ، الرجال و الشيوخ و النساء والصبايا و الأطفال كلهم أتوا من كل حدب وصوب لوداع شاعر العرب ، وكسرت النساء التقليد الذي يحظر عليهن المشاركة في التشييع ورافقن جثمانه إلى المسجد ومن ثم إلى المقبرة و بكى الوطن العربي كله نزار قباني , و هكذا عاد الطائر إلى بيته و الطفل إلى صدر أمه ممتطيا صهوة سحابة ، ممتطيا أجمل حصانين في الدنيا،حصان العشق ، وحصان الشعر, لأن دمشق هي الرحم الذي أنجبه وعلمه الشعر وعلمه الإبداع وأهداه أبجدية الياسمين. سيبقى نزار قباني هامة عالية بين الشعراء و فيلسوفا سطر فلسفته في كلمات معبرة وصادقة ومعطرة بالرقة ، و أنامل المرأة . كان نزار سياسياً جباراً بقامته و هامته و فكره عاليا و لم يخضع و لم يتنازل ، كان جبلا شامخا وكان شلالاً هادراً و كان سهلاً منبسطاً , و نهراً جارياً ، كان الخير و المحبة و كان الرحمة و الحب و الدفء و الحنان ، كان الرقة و الدبلوماسية و الشفافية كان الشعر و الإلهام . كان نزار هو النزر النادر في كوكبة الشعراء . فقيدنا العزيز في ذكرى و فاتك الثانية عشرة , لماذا حملت قلبك , كما حمل خالد الذكر قلبه هموم العرب أكثر مما يتحمل البشر , فأنت الذي علمتنا ألا نحمل المباخر للحكام , وأن نتمرد على رداءتهم.
بعدما رحل نزار : لقد قضى نزار أكثر من ثلثي حياته في كتابة الشعر ... تنقل بين الحب و الكره , قدّس المرأة و جعل منها حلقة الوصل بين الأرض والسماء ، حارب عن القصيدة وحارب عن الأنثى وعن الحضارة ، و لعل الإيقاعات النزارية على مقام العشق كانت منذ انطلاقتها الأولى ظاهرةً متميزة ولها حضورها على الساحة العربية محكيةً أو مغناة ، ولكن مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها اليوم وبقوة . أين نزار قباني بعد مرور هذه الفترة على رحيله ؟ و هل ما زال صاحب ( قصيدة الحزن ) أو مدرسة الحب ــ كما أسماها كاظم الساهرــ يتمتع بشعبية الأمس ؟ و هل الأزمة التي يواجهها الشعر اليوم مردها الشاعر أم الجمهور ؟ ولأن نزار لم يطلب يوماً أن يتربع على إمارة الشعر كغيره ، و لأنه اختزل الكثير في شعره ربما حمل لنا الإجابة عندما قال : سأختصر الآن كل القضيه ، أنا طيب القلب في الحب جداً وأنتِ ــ برأي جميع الشهودْ ــ أهم ممثلةٍ مسرحيةْ غاب نزار قباني منهياً نيسان قبل اثني عشر عاما بالحزن و لكنه ترك الكثير و الكثير من الفرح خلفه ..... ربما صنع نزار ربيعاً لدمشق لم يصنعه أحد قبله ، وهكذا ستكتشف دمشق أن الوقت سيطول كثيراً قبل أن يأتي على هذه المدينة شاعر مثله ... و السؤال الذي يطرح نفسه : هل سيأتي على دمشق شاعر من عيار نزار قباني ؟؟؟ و هو نفس السؤال الذي طرحناه عندما رحل شاعر العرب و فلسطين و قضيتها الراحل محمود درويش. لنزار و محمود نقول : يا وطني ..... كل العصافير لها منازل , إلا العصافير التي تحترف الحرية , فهي تموت خارج الأوطان ..... و نقول رغم ذلك : على هذه الأرض ما يستحق الحياة .