بسم الله الرحمن الرحيم
لإخواني أخواتي هذا الموضوع يتناول الجوانب البلاغية في القرآن الكريم بعيداً عن التفسير الشرعي أو الفقهي وسأطرحه على شكل أسئلة وأجوبة على حلقات متتالية إن شاء الله تعالى. وهذه أول حلقة
1: ما الفرق بين أتى وجاء في سورة مريم (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27))؟
القرآن الكريم يستعمل أتى لما هو أيسر من جاء، يعني المجيء فيه صعوبة بالنسبة لأتى ولذلك يكاد يكون هذا طابع عام في القرآن الكريم ولذلك لم يأت فعل جاء بالمضارع ولا فعل الأمر ولا اسم الفاعل. نأتي للسؤال (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) مريم) الحمل سهل لكن ما جاءت به أمر عظيم من الولادة وأصل المسألة امرأة ليست متزوجة تحمل هذا أمر عظيم وهي كانت خائفة من هذا وكيف تواجه قومها لما قيل لها (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) مريم) أن هذا المجيء صعب عليها هي علمت أنها ستواجه قومها وقومها سيواجهونها ولذلك قال (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) لكن كيف واجهوها؟ كان الجواب (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا). ليس هذا فقط قال تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)) المجيء صعب. قال (فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) عبس) شديدة، (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) النازعات) شديدة، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) الغاشية) لم يقل أتتك الغاشية وإنما حديث الغاشية لكن هناك الصاخة جاءت والطامة جاءت. (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) النصر) هذا أمر عظيم هذا نصر لا يأتي بسهولة وإنما حروب ومعارك، (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) الإنسان) هذا نائم يمر عليه وهو لا يعلم، لم يكن شيئاً مذكوراً أي قبل وجوده لم يكن شيئاً مذكوراً قسم قال لم يكن شيئاً لا مذكوراً ولا غير مذكور وقسم قال كان شيئاً ولم يكن مذكوراً كان لا يزال طيناً لم تنفخ فيه الروح، ففي الحالتين لا يشعر بمرور الدهر فاستعمل أتى. في قوله تعالى (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ (1) النحل) وقوله (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) غافر) هناك لم يأت بعد (أَتَى أَمْرُ اللّهِ) فلا تستعجلوه هو قَرُب، أتى يدل على الماضي أنه اقترب لم يصل بعد فلا تستعجلوه، (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) هنا الأمر واقع لأن فيه قضاء وخسران أي المجيئين أثقل؟ (فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ) أثقل، يصور مشهداً واقعاً أما في الآية الأولى لم يأت بعد ولم يقع بعد فمع الذي لم يأت بعد استعمل أتى ولما حصل ما وقع وما فيه من قضاء وخسران استعمل جاء. إذن الإتيان والمجيء بمعنى لكن الإتيان فيه سهولة ويسر أما المجيء ففيه صعوبة وشدة ويقولون السيل المار على وجهه يقال له أتيّ مرّ هكذا يأتي بدون حواجز لأنه سهل. (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ (17) النمل) ليس هنا حرب، (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) يوسف) هذه فيها قتل. إذن هنالك فروق دلالية بين جميع كلمات العربية سوءا علمناها أو لم نعلمها. رأي الكثيرين من اللغويين قالوا ليس هناك ترادف في القرآن إلا إذا كانت أكثر من لغة (مثل مدية وسكين) ولا بد أن يكون هناك فارق.
2: في الخصوصيات في القرآن الكريم الظنّ في القرآن بمعنى اليقين هل هي خاصة بالقرآن (إني ظننت) أي أيقنت؟ وما اللمسة البيانية في استعمال لفظ الظن بدل اليقين؟
هذا ليس من خصوصيات القرآن وإنما الظن هو شك ويقين ويترقى إلى اليقين ويقوى حتى يصل إلى اليقين لكنه ليس بيقين عيان وإنما هو يقين تدبر. يقين العيان لا تقول ظننت الحائط مبنياً وهو أمامك لا يجوز أن يقال هذا ، يقال في الأشياء الغائبة عن الحواس وليست في الأشياء المشاهدة فلا يمكن لأن تقول ظننت الكتاب على المنضدة وأنت تشاهده، لا يستقيم. لذا قالوا ليس بيقين عيان وإنما يقين تدبر ولذلك قالوا في المشاهدة لا يصح أن يقال ظننت. هذا الظن واليقين في اللغة، الظن قد يأتي شك وقد يأتي يقين لكن ليس يقين عيان وإنما يقين تدبر وهذا ليس خاصاً القرآن فقط وإنما في اللغة. لكن أنا في تقديري الشخصي والله أعلم أن إبقاءها على معناها ما أمكن أولى، يعني المعنى الأساسي للظن إذا استطعنا أن نبقيها على معنى الشك وليس اليقين إذا استطعنا أن نبقي النص إلى هذا المعنى أولى من اليقين ويستشهدون بقوله تعالى (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) البقرة) يمكن أن يكون معناه أنهم وطنوا أنفسهم على الموت بحيث يظنون أنهم سيموتون، يظنون أنهم ملاقو الله هؤلاء يظنون أنهم سيموتون هذا ليس موطن يقين لأنه احتمال أنه لا يموت، لكن هو في ظنه أنه لما رأى الكثرة من الجيش المقابل قالوا نحن ميتون ملاقو الله فيبدو لي أنه إذا أمكن إبقاءها على المعنى المشهور أولى من صرفها إلى معنى آخر. حتى في قوله تعالى (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ (20) الحاقة) لا يرتقي لدرجة اليقين، هو سيحاسب ويلاقي ربه وقد يؤتى كتابه بيمينه هذا اعتقاده لكنه ليس مقطوعاً به مائة بالمائة فالإنسان يظن أن الله تعالى سيثبته على ما هو عليه فالعلم عند الله لأن الإنسان لا يقطع لنفسه أنه في الجنة وفي الأثر من قال أنا في الجنة فهو في النار فكيف يقطع لنفسه ويتألّى على الله؟ والحديث يقول " حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب" لكنه هو قد يظن لما يرى أنه في الجنة ، يمكن إبقاءها على المعنى المشهور لها إذا أمكن فإذا ما أمكن فهو يجوز. هي ليست خصوصية من الاستعمال القرآني وهي موجودة في الشعر واللغة.
3: ما اللمسة البيانية في ذكر وحذف (في) في الآيتين (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ (165) الأنعام) و (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ (39) فاطر)؟
لما نقول هو ملك مصر أو ملك في مصر أيها أوسع؟ ملك مصر أوسع. خلائف الأرض قالوا هذه في الأمة المسلمة التي سترث الأرض ولن يأتي أمة من بعدها تحمل رسالة (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) الأنبياء) ترث الأرض فقالوا هذه الأمة المسلمة. خلائف في الأرض للأفراد كل واحد هو خليفة في الأرض يفعل ما يشاء لأنه في الآية (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) فاطر) وقسم قالوا لأهل مكة ولم يجعلوه عاماً. إذن خلائف الأرض عامة للأمة المسلمة على العموم (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) أما تلك ففيها احتمالات قالوا انتفاع بما في الأرض،خلفاء من قبلكم.
خلائف من خليفة ذرية يخلف بعضهم بعضاً.
4: ما الفرق بين عام وسنين؟ وهل كلمة سنين في (وَطُورِ سِينِينَ (2) التين) مشتقة من سنة؟
سنين ليست كلمة عربية وهي طور سيناء في مصر. وردت في القرآن باسمين سيناء (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20) المؤمنون) ووردت طور سنين وهي فيها اسمان يذكر أهل اللغة المحدثون أن هذه فيها لغتين سيناء وسنين كما أن الأسماء أيضاً الرسول يسمونه محمد وأحمد. هذا من الإعجاز لأن القرآن استعملها كما استعملها القدامى سنين وسيناء إنما هي ليست عربية. كلمة طور تعني الجبل وهي في الأصل ليست عربية أيضاً وكلمة طور لم ترد إلا في بني إسرائيل في القرآن الكريم واختلفوا في قوله تعالى (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (2) الطور) وقالوا هو طور سيناء فهي كلها لبني إسرائيل. الطور وسنين ليست عربية وتسمى اسم علم مثل أسماء كثيرة وأعلام كثيرة مثل إبراهيم وإسماعيل.
هل سنين جمع سنة؟ كلا. القرآن استخدم سنة وعام (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا (14) العنكبوت) أشهر ما قيل أن السنة تستعمل للقحط والعام للرخاء وهذا أشهر ما قيل في التفريق بين السنة والعام. لذلك في الآية (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) يقولون الخمسين عاماً هي التي ارتاح فيها، والباقي كان في تعب مع قومه.
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا (47) يوسف) (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) يوسف) الأصل أن السنة للأزمة والقحط والعرب اشتقت منها فقال أسنت الناس أي أصابهم القحط والسنة بمعنى الأزمة. نأتي للجمع الجمع ليس بالضرورة لأن كلمة عام لم تجمع في القرآن ليس في القرآن أعوام، موجود منها المفرد والمثنى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ (14) لقمان)، السنة موجود المفرد والجمع جمع المذكر السالم وليس المؤنث السالم، موجود سنين يعني سنوات غير موجودة، عامين موجودة وسنتان غير موجودة، سنين موجودة وأعوام غير موجودة. في الجمع ما لم يكن موجوداً يكون بمعنى العام لذلك في القرآن الكريم يستعمل السنين في الخير والشدة (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) الأعراف) (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) تصير عامة لأنه ليس هناك جمع أعوام، عندنا فرق بين عام وسنة لكن في الجمع تصير عامة. لم يرد في القرآن أعوام ونحن نبحث في الكلمات التي استعملها القرآن فالقرآن ليس قاموساً يجمع الكلمات. هذا الفرق مشهور في اللغة لكن ليست قاعدة هكذا موجود في اللغة لكن في الجمع تختلف. في الغالب السنة للشدة والقحط وللعام للرخاء وإذا جمعها سنة تصير عامة. الفترة الزمنية واحدة في السنة والعام فالسنة والعام 12 شهر وبعضهم يفرقون بينها في البدء والانتهاء منهم يقول من الصيف للصيف وقسم يقول من بداية السنة وهذه تفريقات يقول اللغويون أنها تفريقات غير دقيقة. في قوله تعالى (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) الكهف) هنا مطلق الزمن.
5: تسليط الضوء على لفظ الأولى في الآية (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى (33) الأحزاب) وهل هناك ما يسمى بجاهلية أخرى غير هذه الأولى؟ وكيف كانت تتبرج النساء في الجاهلية الأولى؟
المفسرون ذكروا أيضاً عدة جاهليات هي ليست واحدة والمقصود بالجاهلية الأولى هناك أكثر من رأي قسم قالوا في زمن ما بين نوح وإدريس وقالوا كان لهم عيد كان الرجال يتبرجون للنساء والنساء تتبرج للرجال وهذا كان يوم عيد فظهرت فيهم الفاحشة وقسم قالوا في زمن سليمان وداوود كان النساء كانت تلبس قميصاً لا جوانب فيه غير مخيط الجانبين فيظهر ما يظهر وهذه قديمة من زمن داوود سليمان وقسم قال الجاهلية الأولى هي جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى هي جاهلية الفسوق في الإسلام يعني ما يحدث الآن هو جاهلية جديدة – هذا رأي الزمخشري - مستحدثة وما نشاهده الآن ليس إسلاماً لكن هذه جاهلية مستحدثة حصلت في العصر الحديث وفي عصر الإسلام وفي مختلف العصور لو حصلت فهي جاهلية. الفسوق والفجور في الإسلام هي جاهلية مستحدثة والجاهلية الأولى قبل الإسلام. الخطاب في الآية لنساء النبي، والتبرج للنساء. إذن الجاهلية الأولى قبل الإسلام وكل ما يحدث في الإسلام من أمور مخالفة هي جاهلية جديدة.